" لقد اكتشفنا سر الحياة"
" فرنسيس كريك في 28 .2 . 1953 "
في يوليو من سنة ( 2004 م )، جمع العالم الكبير فرنسيس كريك ( Francis Crick) أدواته: " النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل ورحل، ليس لأنه تعب وعجز عن العمل ولكن – اذا جاز لي ان أستعير تعبير كازانتزاكي – عاد الى بيته الارض ، ... ، لان الشمس قد غربت ". وبوفاة كريك عن عمر يناهز 88 عاما ، يكون قد انقضى أكثر من نصف قرن، على محاولته الناجحة مع رفيقه جيمس واطسون ( James Watson ) لاكتشاف الشفرة التي كتب بها ما يعتبره الكثيرون سر الحياة.
ويرجع استخدام تعبير "سر الحياة" هنا، الى حقيقة ان " الآلية الأساسية " التي تمكن الكائن الحي من أن يعطي خلفا يرث عنه صفاته، هي أكثر الصفات فرادة، من بين تلك تفرق بوضوح بين الكائن الحي والجماد. وكان الفيلسوف والعالم الاغريقي "أرسطو" ، قد المح لتلاميذه ذات مرة، بأن السر في تمكن الكائن الحي من التكاثر، هو اشتماله على فكرة – أو مخطط - بناء كائن حي آخر . و حسب تبسيط " أرسطو " فان فكرة – أو مفهوم - الدجاجة متضمنة في البيضة، كما أن جوزة شجرة البلوط تكون مزودة بالمعلومات اللازمة لمشروع تكوين شجرة البلوط .
غير أن فطنة ارسطو المبكرة هذه، لم تلقى الاهتمام الجدير بها طوال قرون عديدة. ولم يشك أحد - طوال القترة التالية له من الزمان - بان المخطط الذي قصده أرسطو هو بالمعنى الحرفي " شفرة " مكتوبة بمواد كيميائية تسكن في قلب خلايا الكائن الحي.
و مع انتهاء السنوات الخمسين الاولى من القرن الماضي، تجمع للعلماء كم معقول من المعارف حول آلية الوراثة . ولعل أكثر تلك المعارف اساسية، تلك التي جاءت في القرن التاسع عشر ، كثمرة لتجارب القس التشيكي" مندل " (Mendel G. J. ) على النباتات، والتي تتلخص في ان الصفات الوراثية تورث من السلف الى الخلف ليس بشكل عشوائي، وانما حسب قاعدة معينة متكررة. و لا ننسى بالطبع الاكتشاف المهم بان المادة المسئولة عن نقل الصفات الوراثية تستقر في الصبغيات ( الكرموسومات ) المتمركزة في أنوية الخلايا. وكان العالم " ايفري " قد حدد التركيب الكيميائي لهذه المادة ، التي نطلق عليها في الوقت الحاضر اسم " الحمض النووي الريبي منقوص الاوكسجين " ، والتي يختصر اسمها عادة الى " دنا " بالعربية نقلا عن الاختصار الانجليزي ( DNA ).
ولكن كيف يمكن لهذه المادة أن تنقل صفات مختلفة، وبأية كيفية يمكن لها أن تسجل الكم الهائل من المعلومات التي تصف تركيب كائن كامل، بكل التعقيد الذي خلقه عليه الخالق؟ هذا هو السؤال الذي راود المختصون. وحار العلماء في الاجابة على هذا السؤال، ولم يراود معظمهم أي إحساس، بأنه خلال سنوات قليلة فقط سينكشف الغموض عن اللغز الذي بدا لزمن عصيا على الحل، وذلك بعمل من أعمال الفكر المجيدة على يد" كريك " وزمليه " واطسون" .
ولقد جاءت معظم الاستنتاجات المبدئية التي توصل لها الباحثان نتيجة لعمل من اعمال الفكر الخالص، ثم حصلت مصادفة جعلت الباحثين يثقان في ما توصلا اليه من استنتاجات . ففي أحد الايام تناقش واطسون مع الباحث موريس ويلكينس ( Maurice Wilkins ) من الكلية الملكية في لندن حول النتائج المخبرية لفحص مادة الدنا بوسطة الأشعة السينية . وقد أطلع موريس واطسون على بعض الصور الاشعاعية الواضحة التي حصلت عليها الباحثة روزالين فرانكلين (Rosalind Franklin ) التي تعمل معه في نفس المعمل حول تركيب الدنا. وبدا في بعض الصور الاشعاعية التي شاهدها واطسون ظل متقاطع يشبه الحلزون، وهو الامر الذي سر له كثيرا ، لأنه عرف انذاك أنه وكريك كانا يسيران في استنتاجاتهما على الطريق الصحيح.
وفي 28 فبرير سنة 1953 اعلن كريك و واطسون اكتشاف تركيب " الدنا" ، وتم نشر اكتشافهما في مجلة نيتشر ( Nature ) في 25 ابريل من سنة 1953 م. و بعد مرور تسع سنوات تقريبا حصل كل من كريك و واطسون و ويلكينس على جائزة نوبل . وفي سنة 1977 م انتقل " كريك " للعمل في موسسة سالك ( Salk Institute ) في الولايات المتحدة و اقام هناك حتى وفاته. وقد شارك " كريك فيما بعد في بعض الأبحاث المهمة الاخرى في مجال علم الحياة ، والف او شارك في كتابة حوالى 130 دراسة علمية ، والعديد من الكتب.
أما روزالين فرانكلين فقد ماتت في سن مبكر بمرض السرطان الذي نتج عن كثرة تعرضها للاشعة السينية اثناء قيامها بالابحاث . ولم تكن العالمة – لسوء الحظ – تدري حتي يوم وفاتها بالدور المهم الذي لعبته الصور التي التقطتها في اكتشاف تركيب الدنا . وقد ذكر موريس في حوار مع كاتب سيرتها، أنه سمح لنفسه باطلاع واطسون على الصور التي التقطتها روزالين بدون اذن منها، وبدون علمها على لأنه كان يعمل معها في نفس المختبر على نفس الموضوع.
أما مات ريدلي ( Matt Ridley ) مؤلف كتاب الجينوم ( Genome ) فقد وضع كريك في مصاف كل من نيوتن واينشتين وداروين . ومن المعروف أن الكثير من الجمعيات العلمية المرموقة احتفلت رسميا سنة 2003 م بمرور نصف قرن على اكتشاف تركيب " الدنا " ، الذي وضع الأساس المتين لمستقبل علم الحياة والطب الحديثين .
" فرنسيس كريك في 28 .2 . 1953 "
في يوليو من سنة ( 2004 م )، جمع العالم الكبير فرنسيس كريك ( Francis Crick) أدواته: " النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل ورحل، ليس لأنه تعب وعجز عن العمل ولكن – اذا جاز لي ان أستعير تعبير كازانتزاكي – عاد الى بيته الارض ، ... ، لان الشمس قد غربت ". وبوفاة كريك عن عمر يناهز 88 عاما ، يكون قد انقضى أكثر من نصف قرن، على محاولته الناجحة مع رفيقه جيمس واطسون ( James Watson ) لاكتشاف الشفرة التي كتب بها ما يعتبره الكثيرون سر الحياة.
ويرجع استخدام تعبير "سر الحياة" هنا، الى حقيقة ان " الآلية الأساسية " التي تمكن الكائن الحي من أن يعطي خلفا يرث عنه صفاته، هي أكثر الصفات فرادة، من بين تلك تفرق بوضوح بين الكائن الحي والجماد. وكان الفيلسوف والعالم الاغريقي "أرسطو" ، قد المح لتلاميذه ذات مرة، بأن السر في تمكن الكائن الحي من التكاثر، هو اشتماله على فكرة – أو مخطط - بناء كائن حي آخر . و حسب تبسيط " أرسطو " فان فكرة – أو مفهوم - الدجاجة متضمنة في البيضة، كما أن جوزة شجرة البلوط تكون مزودة بالمعلومات اللازمة لمشروع تكوين شجرة البلوط .
غير أن فطنة ارسطو المبكرة هذه، لم تلقى الاهتمام الجدير بها طوال قرون عديدة. ولم يشك أحد - طوال القترة التالية له من الزمان - بان المخطط الذي قصده أرسطو هو بالمعنى الحرفي " شفرة " مكتوبة بمواد كيميائية تسكن في قلب خلايا الكائن الحي.
اللغز المهيب :
و مع انتهاء السنوات الخمسين الاولى من القرن الماضي، تجمع للعلماء كم معقول من المعارف حول آلية الوراثة . ولعل أكثر تلك المعارف اساسية، تلك التي جاءت في القرن التاسع عشر ، كثمرة لتجارب القس التشيكي" مندل " (Mendel G. J. ) على النباتات، والتي تتلخص في ان الصفات الوراثية تورث من السلف الى الخلف ليس بشكل عشوائي، وانما حسب قاعدة معينة متكررة. و لا ننسى بالطبع الاكتشاف المهم بان المادة المسئولة عن نقل الصفات الوراثية تستقر في الصبغيات ( الكرموسومات ) المتمركزة في أنوية الخلايا. وكان العالم " ايفري " قد حدد التركيب الكيميائي لهذه المادة ، التي نطلق عليها في الوقت الحاضر اسم " الحمض النووي الريبي منقوص الاوكسجين " ، والتي يختصر اسمها عادة الى " دنا " بالعربية نقلا عن الاختصار الانجليزي ( DNA ).
ولكن كيف يمكن لهذه المادة أن تنقل صفات مختلفة، وبأية كيفية يمكن لها أن تسجل الكم الهائل من المعلومات التي تصف تركيب كائن كامل، بكل التعقيد الذي خلقه عليه الخالق؟ هذا هو السؤال الذي راود المختصون. وحار العلماء في الاجابة على هذا السؤال، ولم يراود معظمهم أي إحساس، بأنه خلال سنوات قليلة فقط سينكشف الغموض عن اللغز الذي بدا لزمن عصيا على الحل، وذلك بعمل من أعمال الفكر المجيدة على يد" كريك " وزمليه " واطسون" .
نظرة من الخارج:
كثير ما نكتشف من دراستنا لتاريخ العلم ، أن بعض أفضل النظريات التي تقود الى حل مشكلة علمية عويصة في مجال معين، ينجزها مختصون في مجالات علمية اخرى مختلفة أشد الاختلاف. وفي موضوعنا هذا أتت أنجح نظرة الى المشكلة التي واجهت علماء الحياة من الحائز على جائزة نوبل إرفين شرودنجر ( Erwin Schrodinger) وهو أحد علماء الذرة الكبار . و قد صاغ " شرودنجر " رأيه حول الوراثة، في مجموعة من المحاضرات القاها أثناء اقامته في دبلن سنة 1943 ، والتي من خلاصتها صاغ كتابه المعنون باسم ( ما الحياة ؟ ). وفي الكتاب المذكور وصل شرودنجر في تحليله لموضوع الوراثة الى الجملة التي يقول فيها: " ان الصبغيات ، .... ، تحتوي في ما يشبه المخطوط المشفر كل مستقبل الفرد وادائة الوظيفي في حالة البلوغ" . ولقد كان في تحليل شرودنجر هذا لمحة خارقة من العبقرية، التي لفتت انتباه كل من كريك و واطسون . وقد ذكر واطسون بعد سنين ، أنه منذ اللحظة التي طالع فيها كتاب شرودنجر ، استولى عليه الاهتمام بمحاولة اكتشاف سر " الدنا".الرجل والرفيق:
ولد فرنسيس كريك في بريطانيا سنة 1916 ، و درس الفيزياء، غير ان دراستة العليا للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة لندن ( University College) انقطعت نتيجة لاشتعال الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب بسنتين ، وجد كريك لنفسه مكانا في مجال الابحاث الخاصة بعلم الحياة في جامعة كامبريدج البريطانية. وبعد ذلك بأربع سنوات التقى كريك مع الباحث الامريكي واطسون وعمل معه لمعرفة تركيب الدنا، وقد اثمر عملهما المشترك في وضع تصور لكيفية تشفير المعلومات الورائية في الدنا، والذي انكشف من خلال اكتشاف التركيب الحلزوني لهذه المادة .ولقد جاءت معظم الاستنتاجات المبدئية التي توصل لها الباحثان نتيجة لعمل من اعمال الفكر الخالص، ثم حصلت مصادفة جعلت الباحثين يثقان في ما توصلا اليه من استنتاجات . ففي أحد الايام تناقش واطسون مع الباحث موريس ويلكينس ( Maurice Wilkins ) من الكلية الملكية في لندن حول النتائج المخبرية لفحص مادة الدنا بوسطة الأشعة السينية . وقد أطلع موريس واطسون على بعض الصور الاشعاعية الواضحة التي حصلت عليها الباحثة روزالين فرانكلين (Rosalind Franklin ) التي تعمل معه في نفس المعمل حول تركيب الدنا. وبدا في بعض الصور الاشعاعية التي شاهدها واطسون ظل متقاطع يشبه الحلزون، وهو الامر الذي سر له كثيرا ، لأنه عرف انذاك أنه وكريك كانا يسيران في استنتاجاتهما على الطريق الصحيح.
وفي 28 فبرير سنة 1953 اعلن كريك و واطسون اكتشاف تركيب " الدنا" ، وتم نشر اكتشافهما في مجلة نيتشر ( Nature ) في 25 ابريل من سنة 1953 م. و بعد مرور تسع سنوات تقريبا حصل كل من كريك و واطسون و ويلكينس على جائزة نوبل . وفي سنة 1977 م انتقل " كريك " للعمل في موسسة سالك ( Salk Institute ) في الولايات المتحدة و اقام هناك حتى وفاته. وقد شارك " كريك فيما بعد في بعض الأبحاث المهمة الاخرى في مجال علم الحياة ، والف او شارك في كتابة حوالى 130 دراسة علمية ، والعديد من الكتب.
أما روزالين فرانكلين فقد ماتت في سن مبكر بمرض السرطان الذي نتج عن كثرة تعرضها للاشعة السينية اثناء قيامها بالابحاث . ولم تكن العالمة – لسوء الحظ – تدري حتي يوم وفاتها بالدور المهم الذي لعبته الصور التي التقطتها في اكتشاف تركيب الدنا . وقد ذكر موريس في حوار مع كاتب سيرتها، أنه سمح لنفسه باطلاع واطسون على الصور التي التقطتها روزالين بدون اذن منها، وبدون علمها على لأنه كان يعمل معها في نفس المختبر على نفس الموضوع.
الحلزون المزدوج:
وفي المقال الذي نشر في مجلة " نيتشر " أوضح كريك و واطسون ان جزيئات " الدنا" تنتظم في الفراغ على شكل حلزون مزدوج ( double helix ) و اشارا الى اهمية هذا التركيب من ناحية تمكينه " الدنا " على اعادة نسخ نفسه مرة بعد اخرى. والشئ المهم الجديد في هذا الاكتشاف ، هو ان تركيب الدنا يختلف من شخص الى آخر ، وأنه يحمل الشفرة التي توضح طريق بناء كائن حي جديد يحمل الخصائص التي ورثها طبقا للمعلومات المشفرة في "الدنا" الذي ورثه من والديه .أهمية الانجاز:
ربما قد لا يعرف البعض أن اكتشاف تركيب " الدنا " يعد أحد أهم اكتشاف القرن العشرين، إن لم يكن في راس قائمة الاكتشافات العلمية العظيمة كلها. وفي هذا الصدد يذكر العالم الفرنسي الحائز على جايزة نوبل جاك مونو ( Jacques Monod ) في كتابه المصادفة والضرورة الاتي : "... ، ان تعريف مندل للمورثة كحامل ثابت للسمات والوراثية ، وتحديدها كيميائيا من قبل ايفري ... ، وتوضيح القواعد البنيوية لثباتيتها التناسخية من قبل واطسون وكريك ، كل ذلك يشكل دون شك الاكتشافات الأساسية من بين كل الاكتشافات التي تمت في علم الحياة ، ...، ".أما مات ريدلي ( Matt Ridley ) مؤلف كتاب الجينوم ( Genome ) فقد وضع كريك في مصاف كل من نيوتن واينشتين وداروين . ومن المعروف أن الكثير من الجمعيات العلمية المرموقة احتفلت رسميا سنة 2003 م بمرور نصف قرن على اكتشاف تركيب " الدنا " ، الذي وضع الأساس المتين لمستقبل علم الحياة والطب الحديثين .
د. أحمد عبد السلام بن طاهر
أستشاري بقسم الأمراض الباطنة والروماتيزم في مستشفى أويرباخ في المانيا، ورئيس منتدب لقسم أمراض الروماتيزم بمستشفى "قريف" في بولندا، سابقا.
شارك في تأليف مرجع الروماتيزم الألماني الصادر سنة 2001 و 2008
متحصل على شهادة البورد وعلى شهادة الدكتوراة .PhD في طب الروماتيزم
استشاري أول طب الروماتيزم . سنة الحصول على درجة التخصص 1990
متحصل على شهادة البكارليوس في الطب والجراحة عام 1984م.
للاستشارات عن طريق الواتس اب والتيليغرام : 0928665810 (ليبيا)
الايميل: alregwa@gmail.com
___________________________________________________
Copyright© 2004 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق