بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 مارس 2019

غذاء الذاكرة


          يتركب الدماغ من خلايا عصبية نسميها " عصبونات " (neurons)، يشكل نشاطها وتشابكها أساس التفكير والذاكرة، كما تسبغ على السلوك بعض ملامحه المميزة. و يعتمد هذا العضو في تأدية وظائفه ، على ما يصله مع الدم من غذاء ومن غاز الأكسجين. والقدرة على التذكر هي إحدى وظائف الدماغ الأساسية، التي تلعب دورا مهما في إنجازه لوظائفه الفكرية الراقية. وتتجسد أهمية الذاكرة في تسهيل الربط بين خبراتنا الراهنة و معارفنا السابقة، مما يسمح بالوصول إلى استنتاجات معرفية جديدة. ولهذا فمن الطبيعي أن تتجسد مشاكل الذاكرة فيما يعرف بضعف القدرة على التعلم وإنتاج الأفكار الجديدة والمبدعة، وتدني النتائج المتحصل عليها في الاختبارات المدرسية.

         وفي العقود الأخيرة، يري الكثير من الخبراء أن الدماغ هو أكثر أعضاء الجسم تاثرا بسوء التغذية، ويشدد فريق من منهم، على أن تحتل أساليب التغذية الصحيحة، مكانا جوهريا في المحاولات الهادفة للحفاظ على قوة الذاكرة وتحسينها.

الدماغ عضو متطلب

        ترجع حساسية الدماغ المفرطة لسوء التغذية لفرط حاجته للمواد المغذية و الاكسجين . فرغم أن وزن الدماغ لا يتجاوز 2% من وزن الجسم ، نجده يحتاج يوميا الى حوالي 20% من حاجة الجسم الاجمالية اليومية من الطاقة ، و 15 % من الدم الذي يضخه القلب كل مرة، و 25% من الأوكسجين الذي نتنفسه.

        ويستخدم الدماغ سكر الجلوكوز ( سكر العنب ) كمصدر للطاقة اللازمة لعمل الدماغ واستمراره في العيش، ولهذا يطلق البعض على هذا السكر اسم " بنزين الدماغ ". وبينما تستطيع أعضاء الجسم الأخرى استخلاص الطاقة عن طريق حرق السكر أو الدهون ، نجد خلايا الدماغ عاجزة عن استخلاص الطاقة من الدهون. ولكون سكر الجلوكوز غذاء خلايا الدماغ الأساسي ، لذا يعتبر الحفاظ على مستوى مناسب وثابت من هذا السكر في الدم، أمرا حيويا، لمن يريد أن يجنب نفسه التعرض لاضطرابات آنية في قدرته على التذكر.

        ويتحصل الانسان على الجلوكوز من السكريات و من المواد النشوية . والاطعمة التي تفي بهذا الغرض : الخبز ، حبوب الصباح " الكورن فلكس " ، المعجنات والبطاطس والفواكه والعسل. وفي الغالب يتكون غالب افطار مختلف الشعوب من هذه الماكولات . ومن اللازم تزويد الجسم بقدر كافي من سكر الجلوكوز عدة مرات في اليوم ، خاصة قبل ممارسة الأعمال التي تستدعي استخدام القدرات العقلية بتركيز شديد، أو الانخراط في اعمال مجهدة جسديا. وقد أبرزت الكثير من الدراسات انخفاض مستوى الانتباه والتركيز والتذكر عند اطفال المدارس الذين لا يتناولون طعام الافطار مقارنة بمن يحرصون على تناوله .


توابل التفكير

       وقد لاحظ الباحثون، أهمية الفيتامينات لصحة و وظائف الدماغ ، واعتقدوا في البداية أن السبب في ذلك هو ضرورة توفر الفيتامينات لاتمام عملية استخلاص الطاقة. غير أن الأبحاث الحديثة أظهرت جانبين آخرين كانا مجهولين، من أوجه تأثير الفيتامينات على أداء الدماغ: أولهما نتاج علاقتها بالنواقل العصبية  ( neurotransmitters ) ، أما الأخر فيرجع لتاثيراتها المضادة للأكسدة (Antioxidant) .

        و يحلو للبعض أن يطلق علي الفيتامينات تعبير " توابل التفكير "، للتدليل على أهميتها لنشاط الدماغ وإبراز قدراته المعرفية الراقية ، التي تعتمد بشكل كبير على الذاكرة. ويمكننا ابراز دور هذه العلاقة بذكر أهمية فيتاميني " ب 12 " و " الحمض الفولي " لإنتاج مادة الكولين (Choline) في الجسم. ويحتاج الجسم لهذه المادة لصنع " الاستيل كولين " ، وهو ناقل عصبي يلعب دورا مهما في عملية التعلم والتذكر. ويؤدي عدم توفر الناقل المذكور إلى انحدار القدرة على التذكر، وصعوبة التركيز والشعور بالنعاس.

       وقد ذكرت دراسات متعددة ، أن هناك علاقة قوية بين وجود مستويات عالية من فيتامين الحمض الفولي والتمتع بقدرات عقلية جيد عند من بلغوا أو تجاوزوا العقد السادس من العمر ، هذا بشرط توفر مستويات طبيعية من فيتامين ب 12 في دمائهم. كما لاحظت الدراسة علاقة انخفاض مستويات فيتامين " ب12 " بتدهور القدرات العقلية المعرفية. كما اوضحت دراسات أخرى مظاهر ضعف واضح في القدرة علي التذكر عند الاصحاء ممن تجاوزوا 75سنة من العمر ممن لديهم قابلية وراثية للاصابة بداء الزهايمر ( من امراض الخرف )، اذا ما عانوا من انخفاض مستويات فيتامين ب12 في دمائهم.

        أما الفيتامينات الاخري المهمة للدماغ والذاكرة، فتشمل فيتامينات " ب1" ( الثيامين ) و " ب3 " ( حمض النياسين) و "الحمض البانتوثيني "، وهي كلها من أفراد طائفة فيتامينات ب المركبة ( B-complex ). وتعد مصادر الغذاء الحيوانية ( اللحوم والبيض والأسماك والكبد ) من بين أهم مصادر فيتامينات ب المركبة ، لكونها قادرة على تزويد الجسم بكل أفراد هذه المجموعة الفيتامينية. أما الحبوب ومنتجاتها فلا تزود الجسم إلا ببعض أفراد فيتامينات ب المركبة فقط .

مضادات ا لتاكسد

         مثلما يستخدم محرك السيارة الوقود لينتج الطاقة التي يحتاجها ، ويطلق الي الهواء بعض الغازات الغير مرغوب فيها ، كذلك هو الحال مع الخلايا الحية . والشيء الذي يلعب دور الغازات الغير مرغوب فيها في حالة الخلايا ، هو ما يطلق عليه الخبراء اسم " الجذور الحرة (free radicals) " . ويتحكم الجسم في مستويات هذه الجذور بواسطة بعض الآليات الخاصة، لكي لا تؤذي الجسم. وعندما تفشل هذه الآليات في مهمتها لسبب أو لأخر، ترتفع مستويات الجذور الحرة ، وهو الامر الذي قد يتسبب - حسب ما تقول به مجموعة كبيرة من الدراسات- في نشوء طائفة من الأمراض، من بينها بعض أمراض واضطرابات الجهاز العصبي التي تترافق مع حدوث ضعف في الذاكرة.

       وقد أتضح من الدراسات، أن لبعض المواد القدرة علي اقتناص الجذور الحرة وتقليل مستوياتها في الجسم، و لهذا يطلق علي هذه المواد اسم مضادا ت التأكسد أو قانصات الجذور . ويري فريق من العلماء أن تناول هذه المواد يفيد الذاكرة. وتشمل مضادات التاكسد فيتاميني " ج "( C ) و "إي "( E )، هذا بالإضافة إلي طائفة الكاروتينات ( Carotene )التي ينتج عنها فيتامين " أ " في الجسم. ويمكن تزويد الجسم بفيتامين " ج " و الكاروتينات بتناول الخضروات والفواكه، أما فيتامين "إي " فيمكن الحصول عليه بتناول الزيوت النباتية و الكبد.
العناصر المعدنية

       ولبعض العناصر المعدنية المغذية هي الاخري خواص مضادة للتأكسد ، وهو الأمر الذي يكشف عن أهميتها للدماغ والذاكرة. واهم هذه العناصر هي الزنك والكروم و السيلينيوم (Selenium) . و تعتبر اللحوم و الكائنات البحرية المختلفة، والحبوب الكاملة أهم مصادر السيلينيوم في الطعام. أما أفضل مصادر الزنك والكروم فهي اللحم والبيض والكبد والكائنات البحرية، الجبن، الحبوب الكاملة والخميرة.

        ورغم أن عنصر الحديد ليس من مضادات التاكسد ، إلا أن هذا لا ينفي أهميته لعملية التذكر. ويعرف الأطباء منذ زمن بعيد أن الشكوى من ضعف الذاكرة قد يكون أحد اعراض المعاناة من حالة فقر الدم (Anemia). وتعتبر اللحوم الحمراء، الكبد، الحبوب الكاملة، و الخضراوات أهم مصادر الحديد. ويفيد تناول الخضر و الفواكه مع اللحوم في نفس الوجبة ، في زيادة امتصاص الحديد في الأمعاء.

الأحماض الامينية

           غالبا ما يتحدث الخبراء عن حاجتنا اليومية الي تناول اللحوم و الاسماك ، أو ما يطلق عليها عادة اسم " مصادر الغذاء البروتينية " . وفي الواقع فان اجسامنا لا تحتاج الي المواد البروتينية بذاتها ، بل تحتاج الى الاحماض الامينية (amino acids)  التي تتركب منها البروتينات. ومن المعروف أنه لا يوجد أي نشاط يتم فى الجسم الحى لا تستخدم فيه هذه الأحماض بشكل أو بأخر. و للحمض الاميني المسمي تربتوفان (tryptophan ) اهمية لموضوعنا، لانه يستخدم في صنع ناقل عصبي يسمى السيروتونين (Serotonin) له اهمية لنشاطات الدماغ الخاصة بالسلوك والتعلم . ويمكن تزويد الجسم بما يحتاجه من التريبتوفان عن طريق تناول الحليب واللبن الزبادي والحبوب الكاملة والأسماك والدجاج واللوز والموز والسبانخ.

الدهون

        رغم السمعة السيئة التي تلصق في الوقت الحالي بالدهون ، الا ان الدهون ليست كلها ضارة. و تعتبر دهون الليستين ( Lecithin ) المنتشرة في مصادر الغذاء النباتية والحيوانية مهمة للدماغ و للذاكرة، ويرجع البعض أهميتها لاحتوائها علي على أحماض دهنية عديدة اللا تشبع، وعلي مادة الكولين التي أوليناها بعض الاهتمام في سطور سابقة. وقد أتضح من بعض الدراسات، أن لتناول الليستين تأثيرا محسنا للذاكرة. وتحتوي حبوب فول الصويا واللحوم وصفار البيض على كميات جيدة من الليستين. 

        وبالطبع يجب ان لا ننسي هنا فائدة الدهون التي تحتويها الاسماك والكائنات البحرية الاخري ، وذلك لما اثبتته مختلف الابحاث من اهيمتها للحفاظ علي ذاكرة قوية. ولمن لا يحب تناول الاسماك والكائنات البحرية يمكن تناول هذه الدهون على هيئة اقراص تباع في الصيدليات. وافضل انواع هذه الاقراص هي تلك التي تحتوي على دهون " أوميغا - 3 " لوحدها ، ولا يستحسن تناول اقراص زيت كبد الحوت كبديل عنها.

المركبات الكيميائية النباتية

       تحتوي النباتات بالاضافة الي الفيتامينات والسكريات والدهون ، على مركبات اخري ثبت في السنوات الأخيرة، أهميتها لصحة الإنسان. ويطلق الخبراء على هذه الطائفة من المركبات اسم المركبات الكيميائية النباتية ( Phytochemicals) . ويسود الوسط العلمي اعتقاد قوي، بان الأهمية الكبرى لهذه المركبات ترجع في معظمها إلى خواصها المضادة للأكسدة، وهو الأمر الذي يقي من أمراض واضطرابات الدماغ والذاكرة. و ينصح خبراء التغذية اليوم بزيادة عدد الخضر والفواكه ذات الألوان المختلفة في كل وجبة طعام، تماشياً مع الاعتقاد العلمي السائد الآن، وهو انه كلما زاد عد د الألوان الطبيعية في الطعام، كلما ارتفع عدد المركبات الكيميائية النباتية به.

المنبهات

      لايمكن ان يمر الحديث عن الغذاء ، بدون الالتفات الى المنبهات. و يقف الكافيين على راس قائمة المنبهات الأكثر استخداما في العالم، ويتم تناوله غالبا على هيئة شاي أو قهوة. كما يتحصل العديد من الأطفال على جرعات إضافية منه عن طريق تناول الحلويات الجاهزة المحتوية على الشيكولاته والمشروبات المحتوية على الكوكا. و تفيد الدراسات بان للكافيين القدرة على رفع مستوى بعض القدرات الدماغية من بينها التذكر، كما يحسن الانتباه . غير أن الإفراط في تناول الكافيين أو مصادره يمكن أن يؤدي إلى التوتر العصبي، وسرعة ضربات القلب وضيق التنفس.

وتمتص الامعاء الكافيين الموجود في القهوة بشكل اسرع من شبيهه الموجود في الشاي. وهذا هو السبب في سرعة الشعور بالانتعاش بعد شرب القهوة مقارنة بالشاي . وقد زاد الاهتمام في الفترة الأخيرة بالشاي الأخضر لاحتوائه على الكافيين مواد أخري ذات فائدة للدماغ والذاكرة وللوقاية من بعض الأمراض. ومن بين هذه المواد مادة ابيجالو كاتيكين ( Epigallocatechin )، التي اتضح أن لها تأثيرا مقاوماً للتأكسد يفوق باضعاف عديدة تأثير فيتامين "ج" كما يفوق مفعول فيتامين " أي " بعدة مرات.

د. أحمد عبد السلام بن طاهر
أستشاري بقسم الأمراض الباطنة والروماتيزم في مستشفى أويرباخ في المانيا، ورئيس منتدب لقسم أمراض الروماتيزم بمستشفى "قريف" في بولندا، سابقا.
شارك في تأليف مرجع الروماتيزم الألماني الصادر سنة 2001 و 2008
متحصل على شهادة البورد وعلى شهادة الدكتوراة .PhD في طب الروماتيزم
استشاري أول طب الروماتيزم . سنة الحصول على درجة التخصص 1990
متحصل على شهادة البكارليوس في الطب والجراحة عام 1984م.
للاستشارات عن طريق الواتس اب والتيليغرام : 0928665810 (ليبيا)
الايميل: alregwa@gmail.com  

 ___________________________________________________ 
 Copyright© 2014 by Ahmed Abdulsalam Ben Taher 
 حقوق النشر محفوظة © 2014 للمؤلف أحمد عبد السلام بن طاهر    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق